فصل: نظرات في ألفاظ القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.نظرات في ألفاظ القرآن:

48 - إن الألفاظ في ضمن الأسلوب البياني الرائع، ونعتقد مؤمنين أن كل لفظ في القرآن له معنى قائم بذاته، وفيه إشعاع نوراني يتضافر مع جملته، ويساعد بعضه بعضًا في المعاني العامَّة للأسلوب والعبارات الجامعة، وإنَّ العبارات مجتمعة يساعد بعضها بعضًا.
ولسنا نستطيع إحصاء تلك النواحي في جمال ألفاظ القرآن إحصاءً، ولكنا نضرب من الأمثال على مقدار طاقتنا، ومن غير أن نصل إلى أقصى الغاية، وإنما نسدد ونقارب، بل المقاربة فوق طاقتنا، وقد سبقنا إلى تلك المحاولة فحول البيان.
اقرأ قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وإذا قرأنا وردَّدنا البصر كرتين، وجدنا كل كلمة في حيزها لا تفارقه، ولو فارقته لوجدناه فارغًا لا يملؤه غيرها، ولنبتدئ بالإشارة إلى ما في كل كلمة مما اختصت به.
الأولى: كلمة {آمِنَة} فالأمن معناه عدم الخوف من مغير يغير عليهم، أو عدو يساورهم، ولعلَّ ذلك إشارة إلى مكَّة، أو أنَّ هذه القرية هي هي، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 76]، فتجد في هذه الكلمة إشارة إلى نعمة ليست لغيرهم، واختصوا بها دون الناس أجمعين.
الثانية: كلمة {مُطْمَئِنَّة} فمعنى الإطمئنان يتَّصل بالنفس، فهي قد منحها الله تعالى القرار والسكون والدعة من غير ضعف، ومع هذه الدعة كان هو يقويها ويثبتها، مع ما أعطاهم الله من سلطان أدبي على العرب، وهم ملتقى اجتماعهم ومستقر شعائرهم الدينية ومقامهم الكريم الطيب، فكل هذا يشع من كلمة مطمئنة.
الثالثة: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} فإنَّ هذا يشير إلى سهولة الحياة، وأنه لا يأتيهم كسائر العرب بانتجاع الكلأ، والتنقل في الصحراء، لا ينالون الحياة إلا بشق الأنفس، وبذوقهم في طلبهم الرزق حر الحياة وقرها.
الرابعة: كلمة {رَغَدًا} فالرغد هو الرزق الطيب المذاق المريء غير الوبيء، وهو الواسع الكثير، فهم في رزق يأتيهم سهلًا طيبًا، واسعًا مريئًا لا وباء فيه.
ولكنهم كفروا بهذه الأنعم كلها، فأي صورة بيانية أروع من هذه الصورة، وتجد الكلمات الأربع متآخية في معانيها، متلاقية في ألحانها، منسجمة في نغماتها، وكل كلمة منها تعطي صورة بيانية، فآمنة فيها صورة البلد الذي لا يساوره عدو في وسط موطن فيه يتخطّف الناس، ومطمئنة يشير إلى الاطمئنان النفسي الساكن القار كالماء الساكن الذي لا تعبث به الرياح، ويأتيها رزقها طيبًا من كل مكان، تشير إلى المكانة التجارية التي يأتيها الخير من كل بلد قاص ودان، وأن لهم رحلة الشتاء والصيف.
وإن مجموع الكلمات مع ما تشعه كل واحدة من معانٍ وصور يصور حال جماعة من الناس على هذه الأمور المجتمعة غير المفترقة، وكلها فيوض من أنعم الله تعالى، ومع ذلك تكفر هذه النعم فلا تشكر، بل تجحد الحق ولا تؤمن، وهنا تجيء الصورة الثانية من عقاب ومؤاخذة على ما ارتكبوا من كفر بأنعم الله، ونجد أن كلمة أنعم فيها فصاحة وصورة بيانية؛ إذ إنهم لم يكفروا بواحدة، بل كفروا بها كلها، فكان الجحود أشد، والضلال أبعد، ولكلمة أنعم نغمة هادئة مع سعة المعنى في الكلمة؛ إذ إنها نعم متضافرة، وفيوض خير من الله تعالى متكاثرة.
هذه حال ما أفاض الله تعالى به عليهم، كانت فيها صور النعم واضحة كلًّا وجزءًا في كل كلمة سيقت لذلك.
فلننتقل من الآية الكريمة إلى الصورة التي حلَّت محل الأولى، ولننظر إلى الكلمات السامية كلمة كلمة، ثم ننظر إلى الصورة التي تتكون من هذه الكلمات التي كانت كل منها صورة قائمة بذاتها، وهي أيضًا جزء من الصورة الكبرى التي يكونها المثل القرآني السامي.
الكلمة الأولى: أذاقها الله: في التعبير بأذاق إشارة إلى أنَّ الإيلام مس نفوسهم، وبعد أن كانوا في ترف صاروا يذوقون الضر.
يقول الزمخشري في معنى الإذاقة: قد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضرر، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر، ونرى من التعبير والتقابل أنهم بعدما سكن قلوبهم من اطمئنان، وما كان من العيش الرغد ذاقوا الجوع، وبما منحوا من أمن ذاقوا الخوف، وهكذا تجد التقابل.
والكلمة الثانية: لباس الجوع والخوف، فيها صورة بيانية رائعة، فهي تصور الجوع والخوف كأنَّه لباس لبسهم وأحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يخرجون منه إلَّا إليه، ولا يدورون إلّا في دائرته، وإن ذلك بلا ريب يفيد الإحاطة الشاملة الكاملة التي لا يستطيعون منها فكاكًا، وهذا يفيد استمراره، وتجدده آنًا بعد آنٍ، ولقد قال الزمخشري: وإنَّ اللباس قد شبَّه به لاشتماله على اللابس، ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عمَّا يغشى منهما ويلابس، كأنه قيل: ما غشيهم من الجوع والخوف.
ومهما يكن تصوير إمام البلاغة الزمخشري من أنَّ التعبير باللباس يفيد أنه غشيهم وأحاط بهم، فإن في الكلام صورة بيانية تصوّر حالهم بعد الأنعم التي أنعم بها عليهم، وكفروا بها من أنهم في صورة من كان لابسًا للجوع والخوف، وهم يذوقون، كمن يلبس ملبسًا كله قتاد، يجرح أجسامهم، ويدمي جلدهم، بيد أن هذا لا يدمي الجلد، ولكن يمسّ الحشا بالجوع، والنفس بذهاب الأمن والاستقرار، وإنا نجد أن هذه الصورة البيانية التي يصورها القرآن قد تضافرت الكلمات في تكوينها فاشترك فيها التعبير بأذاقهم، والتعبير باللباس، وكون اللباس جوعًا وخوفًا، ولباس الجوع والخوف أشد إيلامًا من لباس الشوك؛ لأنَّ الشوك يؤذي الجلد حسًّا، ولباس الجوع والخوف يؤذي الجسم ويؤذي النفس، وإذا قوبلت هذه الصورة عند الكفر بالصورة الأولى من أمن واطمئنان، ورخاء في العيش وطيبه واتساعه، وَجَدت الفارق بين صورة النعمة التي كفروا بها والشقاء الدائم بعد الكفر.
ومن ذلك يتبين مقام كل كلمة في تكوين الصورة العامة، فوق النغمة الهادئة، والتصور الحكيم.
49 - ولنتقل إلى مثال آخر، لا نختاره من القرآن اختيارًا، ولكن نأخذه من غير تخير؛ لأنَّ التخيُّر يكون فيما يكون فيه المختار وغير المختار، وكتاب الله تعالى كله خيار، وكله فوق طاقة البشر؛ ولأن الذي يختار يفرض من نفسه حكمًا، ومن يكون حاكمًا على كتاب الله تعالى؟ إنما بحكم على الكتاب من أنزل الكتاب، الذي تعهد بحفظه، وإنما نحن نتلمسه ونطلبه من الكتاب من غير تخيّر؛ لأنه فوق طاقتنا، وفوق التخير.
اقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 83، 84].
اقرأ هذه الآية، وقِفْ عند كلماتها، وتأمَّل في تآخي نغمها، وتآخي معانيها وتصويرها في جملتها للنفس الإنسانية - الكلمة الأولى: أنعمنا، فقد أضافها الله تعالى إليه، وإنعام الله تعالى فيض وإسباغ يغمر صاحبه، والإنعام من الله تعالى يقتضي الشكر، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وكان هذا يقتضي إقبال الإنسان عليه سبحانه، والإقبال بالطاعة، ولكنَّه لم يقبل بل كفر وطغى أن رآه استغنى.
الكلمة الثانية: أعرض، وهي كناية عن البعد عن الله تعالى وعدم الإقبال عليه، تعالى الله علوًّا كبيرًا، وأصل أعرض في المعنى الحسيّ أن يولِّي عرض وجهه بألَّا يقبل على الله تعالى، ويطلب المزيد من النعم بالطاعات يقدمها، ويحب الله تعالى ويخلص له إذ أنعم، ولكنَّه يظن أنه استغنى، وعند ظنّ الاستغناء يكون الطغيان، ويكون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ووراء ذلك الفساد الكبير والشر المستطير.
الكلمة الثالثة: نأى بجانبه، النأي هو البعد، وكلمة بجانبه، مؤدَّاها اتخاذ جانب آخر غير جانب الله تعالى، فيسير في ضلاله البعيد، ويقول الزمخشري: إن كلمة {نأى بجانبه} تأكيد لمعنى أعرض. ونقول: إنها تأكيد لمعنى الإعراض من حيث إنه الخطوة التالية بعد الإعراض، فالإعراض عن الكلام عدم الإصاخة إليه، وعدم الالتفات إلى دعوة الحق، وأنَّ هذه خطوة تكون من بعد أن يبتعد عن الله تعالى ويجافيه، وترى من هذا أنَّ الكلمات من حيث السياق يأخذ بعضها بحجز بعض في نغم مؤتلف، من حيث إن كل معنى يعقبه أخق له مترتب عليه متناسق معه.
ومن مجموع هذه الكلمات يتبيِّن كيف كان أثر النعمة كفرًا بها، وكيف يتدرَّج الكفر بها، حتى يكون البعد التام عن الله، فتكون الطاعة في جانب، ونفس المنعم عليه في جانب آخر، وهو جانب العصيان والضلال البعيد، ثم الطغيان من وراء ذلك.
والصورة البيانية من هذا الكلام قد تضافرت في تكوينها الألفاظ كلها مجتمعة، وكل كلمة صورة بيانية في ذاتها، فإنعام الله تعالى يعطي صورة بيانية للمنعم وفيض نعمه تعالى، والإعراض بتلقيها بجانب الوجه صورة حسية، ثم النأي من بعد ذلك.
هذه صورة المنعم عليه في جحود نفسه، وعدم التفاتها إلى الاعتراف بالنعم وشكرها، مع أنَّ شكر المنعم واجب عقلًا، وهو منبعث من الضمير الطيب الطاهر.
لننتقل من هذه الصورة التي تصورها الكلمات منفردة؛ إذ كل كلمة صورة بيانية رائعة، ثم هي بتضامنها وتلاؤمها تعطي صورة كاملة لنفس كفرت بأنعم الله وبطرت معيشتها واتخذتها سبيلًا لظلم العباد، والكفر برب الناس ملك الناس.
ثم نتجه إلى صورة تلك النفس، وقد أصابها الشر، ولم تنل النعمة، وهنا كلمتان كلتاهما تصور صورة من نزول الضر، وأعقابه في النفس الجاحدة، الكلمتان هما: {مسه الشر} و {كان يئوسًا}، إنَّ المسّ وهو الإصابة بالشر، وإنَّ التعبير بمسٍّ يفيد أن الأصابة بالشر ولو خفيفة تصيب من النفس ما تجعلها يائسة، والشر كل ما لا يرغب فيه، ويطلق على الأمور الضارة حسيًّا ونفسيًّا، وعلى الأمور القبيحة خلقيًّا. والتعبير بالشرِّ هنا يشمل الضار؛ كقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12]، ويشمل نتائج الطغيان والعصيان، فيكبه الله تعالى على وجهه، ويشمل العقاب الذي ينزله جزاءً لما ارتكب، وإذا كان قد جحد بنعمة الله تعالى؛ إذ أنعم بها وأعرض، ونأى بجانبه، فإنَّ النفس التي تطغى بالنعمة تذل وتهون وتضعف بسلبها، ويصيبها اليأس المطلق إذا نزلت بها النقمة.
الكلمة الثانية: {كان يئوسًا}، وهنا نجد كلمة كان الدالة على اللزوم والاستمرار ككان في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، وكلمة يئوسًا بصيغة المبالغة الدالة على لزوم اليأس وإيغاله في النفس، وعدم افتراقه عنها، فيكون في حال بؤس مستمرٍّ، ويأس دائم، يكفر إذا أنعم الله عليه، ويصاب بالطغيان، ويكفر إذا اختبره الله تعالى بالشر يصيبه.
ولا شك أنَّ هذه الجمل السامية والكلمات تصور حال إنسان غير قارٍّ ولا ثابت، تبطره النعمة، ويوئسه الاختبار، وكل ذلك في ألفاظ منسجمة في نغماتها، متضافرة في معانيها، تدل على النفس المنحرفة وتصورها.
ولقد ختم الله سبحانه وتعالى - الاية الكريمة بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]، وهنا نجد النص الكريم يفيد ما يدل على أنَّ الناس جميعًا ليسوا سواء في ذلك، فمنهم شقي على الصورة التي ذكرها سبحانه، ومنهم سعيد، وهم الصابرون الذين لا تضطرب نفوسهم بنازلة تنزل، ولا يطغون بنعمة تسبغ، وكأنَّ هذه الجملة في موضع التخصص من عموم الإنسان المذكورة أولًا كالاستثناء في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11].
والكلمة السامية {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه}، نجد فيها ثلاث كلمات منها ينبثق نور، فالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك، فيه ما يصور أنَّ بعض الناس كذلك، وأنَّ في الناس من ليسوا كذلك، فدلَّت كلمة {قل} التي تتضمَّن الرد على هذا الاعتراض المفروض، وانتقل الكلام من ضمير المتكلم من الذات العلية إلى الخطاب الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الأمر تنبيه يتولَّاه صاحب الرسالة المتكلِّم عن الله نازلًا إلى مرتبة المسترضين ليواجههم بالرد، وفي ذلك فضل تنبيه وتقريب، وذات الانتقال من المتكلم إلى المخاطب فيه تجديد بياني، وتصوير بلاغي، والشاكلة - الهيئة والصورة والسجية، والمنهج الذي يخطه لنفسه ويسير عليه من الضلالة كالأولين، والهدى للمهتدين، والشاكلة تطلق على الطريقة، ويقول الزمخشري: إنها من قولهم: طريق ذو شواكل، الطرق التي تتشعب منها.
وفي هذا الكلام معانٍ دقيقة تنبعث من صور الكلمات، ومرامي العبارات وحسن المقابلات، إنَّ الناس قسمان: قسم شاكلته تلقى النعمة بالإعراض، ووراء الإعراض الظلم والطغيان والفساد في الأرض، وقسم صابر ضابط لنفسه لا تبطره النعمة، بل يصبر عليها، فيطيع ويقوم بحق شكرها. والأوّل مضطرب النفس غير منضبط القلب، تطغيه النعمة فيستكبر، وتوئه النقمة فيكفر باليأس من رحمة الله.
وإن لله تعالى العلم الكامل بالصنفين، وهو مجاز للفريقين، وقد ختم النص الكريم بقوله تعالت كلماته: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} وهنا نجد المعاني تشع بنورها من هذه الكلمات.
فأولًا: الفاء التي تفيد ترتيب الجزاء على الأعمال، وثانيًا: التعبير بربكم الذي فيه الإشارة إلى أنَّه خلق فسوَّى، وهو المربي المكمل، الهادي كلًّا إلى غايته، وثالثًا: ترتيب العلم الكامل على كونه الخالق، ورابعها: ذكر العلم الكامل بأفعل التفضيل الذي يدل على أنه لا علم فوقه إن كان ثَمَّة تفاضل، وخامسًا: التعبير عن الجزاء بأنه أثر الهداية، وأنَّ الله تعالى أعلم بالمهتدين، وسادسًا: التعبير بأفعل التفضيل في أهدى، أي: إنه العالم بمن اهتدى بعد أن يغفر الله، وسابعًا: في التمييز بكلمة سبيلًا، وفيه بيان بعد نوع من الإبهام، وكذلك يكون العلم متمكنًا فضل تمكن، علم بالهداية وعلم بمنهاجها، وهو السبيل القويم.
50 - بعد هذا النظر السريع إلى تلك الآية نتجه إلى آية أخرى، نجد فيها الكلمة تدل على معنى لو غيّرت بغيرها مما يكون في معناها ظاهرًا، مرادفًا لها بادئ الرأي، لا يمكن أن يؤدي المعنى الذي يشرق منها، ويجتمع به في الدلالة صورة اللفظ، وإشراق المدلول.
اقرأ قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18]، فإننا لو أردنا تغيير كلمة من هاتين الكلمتين لتغيَّرت الصورة البيانية، ولننظر فيهما.
الكلمة الأولى: وهي الصبح، فإنَّها تدل على النور الذي يتخلَّل الظلمة، ويسري فيها شيئًا فشيئًا، وينبعث في هذا الوجود فيملؤه نورًا، وتنبعث من بعده الحياة، ويخرج الناس إلى معايشهم بعد سبات الليل وسكنه، وما يغشى به الكون من لباس الظلمة.
ولا شكَّ أن كلمة الفجر قد تدلُّ على بعض معاني كلمة الصبح، والعلماء يعدونهما من المترادفين، ولكن عند التحقيق نجد كلمة الفجر تدل على معنى شق الظلمة، وعلى مجرَّد ابتداء نهاية الظلمة، ولذلك يقترن بها ذكر الليالي، كما قال تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3]، فقد كان ذكر الليالي مع الفجر متناسبًا؛ لأنَّ الليل متآخٍ مع الفجر في معناه، وقصد به مجرد نهاية الليالي.
ولكن كلمة الصبح لوحظ فيها الإشارة إلى ابتداء النهار، فإذا كان وقت الفجر والصبح واحدًا فإنَّ الفجر فيه بيان إنهاء الليل، والصبح ابتداء النهار، ولذا يستحين الناس أن يقال طلع الفجر، ولا يقال طلع الصبح، بل يقال أشرق الصبح، وهنا نجد المعنى واحدًا في الجملة، ولكن الدلالة اللغوية الدقيقة مختلفة، فهذا إشراق وذاك إنهاء.
والكلمة الثانية: كلمة {تَنَفَّس} فإنَّ كلمة التنفس في ذاتها تدل على بدء مظاهر الحياة شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأنَّ أصل التنفس من النفس، وهي الحياة، وهي أيضًا الريح، وهي الحركة الدائمة المستمرة في الداخل والخارج، فهي تشمل ما يدخل في النفس من أسباب الحياة، وما يخرج منها لتستمرّ الحياة، ويقال: نفس عني، أي: فرج عني، وبذلك يكون كلمة التنفس يندرج فيها ثلاثة معانٍ تتصل بالحياة الدائمة المستمرة، أولها: التنفس بمعنى الحياة، وثانيها: حركتها واستمرارها، وثالثها: تدرجها في الظهور شيئًا فشيئًا، ولو أنك وضعت كلمة أشرق بدل تنفَّس، كأن يقال ولكلام الله تعالى المثل الأعلى: (والصبح إذا أشرق، أو أصبح أو أنار أو أضاء)، فإنَّ كلمة منها أو كلمات لا تقوم مقام تنفس، ولا تغني غناءها.
ولو أننا تركنا لفظ تنفس بانفرادها، وتابعناها مقترنة بكلمة الصبح، وهو النور الذي يبتدئ به النهار، ونظرنا ما يصوره قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} ورأينا كل حي في الوجود، يفيض عليه الإصباح بالعمل والحركة، فالندى يصيب الزهور، والضوء يضيء الحدائق الغناء، والطوير تزقزق بموسيقاها، وينبعث كل من في الوجود خارجًا من لباس الليل إلى معاش النهار، فالزارع يخرج إلى حقله، والماشية تنبعث من مرابضها ناعقة فرحة، سائرة إلى المراعي ترعاها، والكلأ تنتجعه، والصبيان يخرجون من أكنانهم كما تخرج الطير من أكنانها، وكل ما في الوجود يخرج مما يخفيه الظلام.
وهكذا نجد كل مظاهر الحياة تندرج في الظهور، حتى يصل إلى الضحى، فيكون المعترك القوي الصاخب اللاغب، فهل ترى كلمة تدل على هذه المعاني أبلغ من كلمة: والصبح إذا تنفس، وبهذا يتبين أنَّ ألفاظ القرآن الكريم كل كلمة في حيِّزها، لا يملأ غيرها في موضعها فراغها.
51 - بعد هذا البيان الذي حاولنا فيه أن نتسامى إلى أن نذكر مواضع البلاغة أو الفصاحة في كل الكلمات التي سقناها وتلونا آياتها، وكون كل كلمة في موضعها ذات بلاغة خاصة تصور صورة بيانية رائعة، وهي مع أخواتها تتلاقى في صورة كاملة، لها أطياف تروع القارئ، وتستولي على لب المتفهم.
ولننتقل الآن من الألفاظ إلى عبارات لها معانٍ لا يحل محلها في نسجها ولا في مدلولها ما يقوم مقامها، ولنذكر منها أربع آيات.
أولاها: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176].
وإن هاتين الآيتين الكريمتين تصوران رجلًا آتاه الله تعالى العلم بالآيات الموجبة التصديق بالحق، وإن هذه الآيات أحاطت بقلبه ونفسه، حتى لا مناص من إنكارها كما يحيط الإهاب بالجسم، ولكنه ترك الأخذ بالهدى استجابة لداعي الشيطان، وصار من الضالين الذين أغواهم إبليس اللعين، فكان مثله كمثل من ينسلخ عن الإهاب الذي لبسه ولصق بجسمه، ولو شاء الله تعالى لرفعه من كبوة الضلال بما آتاه الله تعالى من علم، ولكنَّه هو الذي انحطَّ إلى الأرض ونزل إليها بسبب هواه، فصار مثله كمثل الكلب يلهث دائمًا، إن ترك يلهث، وإن حمل عليه يلهث، ولننظر في الكلمات التي تشتمل عليها هذه الآيات.
الكلمة الأولى: {انْسَلَخ} والسلخ نزع جلد الحيوان، يقال: سلخته فانسلخ، ووضع هذه الكلمة في ذلك النص الكريم له معنى لا يوجد في لفظ غيره، وهو يشير إلى أن البينات والآية المعلمة للحق أحاطت به، ولصقت بنفسه واتصلت بعقله اتصال إهاب الحيوان بلحمه، ولكنَّه انسلخ من هذه البينات، فكلمة انسلخ فيها استعارة، فشبَّه الكفر والفساد بالانسلاخ في الإهاب لكمال الملازمة؛ ولأنَّ الانسلاخ يكون بمعاناة وعنف، إذ إنّ مادة المطاوعة لا تكون إلّا للأفعال التي تحتاج إلى معالجة، فلا يقال كسرت القلم فانكسر، ولا يقال كسرت الزجاج فانكسر، ولكن يقال كسرت الباب فانكسر، ويقال: طويت الحديد فانطوى، فكان هذا تصويرًا لإثبات أنَّ الكفر ضد الفطرة، وأنه يحتاج إلى معاناة للنفس، ومقاومة لدواعي الهوى، ولكنها لا تكون إلَّا اتباعًا لهوى الشيطان.
الكلمة الثانية: اتبعه الشيطان: أي لحقه الشيطان، فإنَّه يقال: أتبعه إذا لحقه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِين} [الشعراء: 60]، وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42]، وإن وضع هذه الكلمة في هذا الموضع لهو وضع بلاغي عميق، ففيه إشارة إلى أنَّ الشيطان إنما يلاحق الذين يتركون الآيات، ولا يعملون على الأخذ بموجب البينات، فأول دركات الضلال هو ترك الدلالة المعلمة للحق مع قوة سلطانها، وإن تركها فإنَّ الشيطان يلحقه، ويأخذ به إلى آخر غايات الضلال، وإذا وصل إلى هذه الدرجدة صار من الغاوين، والغواية معناها الجهل المردي، الذي يصحبه اعتقاد فاسد مردود، وكأنَّه بهذا الانسلاخ من موجبات المعرفة، ودواعي الحقيقة ينقلب من عالم بالبينات مدرك لها إلى جاهل أراده جهله في الفساد.
الكلمة الثالثة: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْض} ومعنى أخلد إلى الأرض ركن إليها، يحسب أنَّ الركون إليها يجعله خالدًا، ويجعله باقيًا مستمرًّا، وهو يريد البقاء على أي صورة، وإنَّ مقابلة هذه الكلمة بقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: بالبينات، يفيد أنه اختار الاستفال بدل الارتفاع، والضعة بدل الرفعة، ويكون في هذا إثبات أن الرفعة تكون بطلب الحق والإيمان والاستجابة لبيناته، وعدم الانخلاع من موجبها.
وكل هذه المعاني تشرق من مقابلة الارتفاع بالإخلاد إلى الأرض.
وهنا نجد صورة رائعة تلتقي فيها أطياف مميزة بألفاظ مصوّرة، فهي تصور شخصًا أفاض الله تعالى عليه بأسباب الإيمان بالحق، والتصقت به حتى صارت كأنها جزء من كيانه، وقد اتصلت ببنائه، ولكنه بسبب أنه أخلد إلى الأرض وكان نزوعه متصلًا بأعلاقه قد سلخ البينات الملتصقة بها بانغماس في الضلال متكرر مستمر، حتى انسلخ من الهداية، وفي ذلك إشارة بيانية إلى أنَّه ترك الهداية بعد عمل مستمر قام به، فهو قد ابتدأ في الشر متبعًا هواه، ثم كرره حتى كون له خطوطًا في نفسه، وتكرَّر حتى صارت الخطوط مجاري، فكان الانسلاخ، وبعد الانسلاخ وجد الشيطان طريقه فأتبعه بغية الضلال، وقد مثله تعالى بمثال آخر، وذكر له صورة أخرى.
وذكر في الكلمة الرابعة: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}؛ واللهث كما يقول علماء اللغة: أن يخرج الحيوان لسانه مرطبًا بلعابه في حال عطشه أو جوعه أو إعيائه، أو إهاجته وذعره، ويقولون: إن أخسّ أحوال الكلب أن يكون منه اللهث في كل أحواله، فإنه يكون مكروبًا دائمًا، وقد ذكر القرآن الكريم حال من ينسلخ من الهداية إلى الغواية بأنَّه يكون في حال هياج نفسي مستمر لا يستقر على قرار، ولا يسكن على حال؛ إذ إن الهداية إيمان، والإيمان اطمئنان وقرار، و من يكفر بالله وينسلخ على هدايته اتباعًا لهواه يكون في لهج مستمر، فيكون كالكلب في أخسِّ أحواله وأذلها، إن هيج لهث وبدت صورته شوهاء، وإن سكت عنه بدا على هذه الصورة.
وإن هذا تصوير واضح لمن غلب عليه هواه؛ إذ تغلب عليه شقوته، ويكون في اضطراب وشعور بحرمان دائم يستقر في نفسه؛ لأنَّ الهوى يجعل النفس طلعة تتطلع ولا تهدأ ولا تستقر ولا تطمئن.
ونرى من هذه الآية وما سبقتها كيف يكون كل لفظ مؤديًا معنى خاصًّا يقصد، ويعطي صورة من البيان لها أطياف كأطياف صورة التصور الحسية التي تصورها يد صناع لمصور ماهر، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، ومن مجموع هذه الصور المتكوّنة من الكلمات تكون صورة كلية يتمثَّل فيها أعلى صور البيان.
52 - ولننتقل من هذه الصورة الرائعة التي تتكوّن من مجموع صور بيانية للعبارات إلى صورة بيانية؛ لبيان حال ما ينزل بالكفار يوم القيامة، ولا يصحّ أن يجول بخاطر أحد أنَّنا نبحث في ألفاظ القرآن الكريم متخيّرين، بل نفتح فنجد الأمثال الواضحة من غير تحرّ ولا تخير.
لقد قال تعالى في سورة الدخان في تصوير غذاء المشركين يوم القيامة، وترى كل كلمة من النص تبيّن صورة مؤلمة مزعجة لما يتناولون، ويشترك في الصورة نغمة الكلمات ونسقها وتآخيها.
اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 43 - 49].
ولننظر إليها، ونبيّن ما فيها من صورة بيانية تتخذ منها ومن أخواتها صورة بيانية لأغلظ عيش وأقسى حياة، وكيف يكون الغذاء كله إيلامًا لا إشباع فيه، وإيذاء لا متعة معه، ثم يختم القول بتهكُّم على من كان يحسب نفسه عزيزًا كريمًا، والمؤمنين أراذل منبوذين.
أولى هذه الكلمات شجرة الزقوم، وهذا استعمال قرآني لم يكن كثيرًا عند العرب، وإن كان أصل اشتقاقه من لغتهم، والزقّوم صيغة مبالغة من الزقم، الزقم إعطاء الطعام الكريه أو الأمر الكريه، ويقال: تزقَّم إذا ابتلع شيئًا كريهًا غير مرغوب فيه، بل تنفر عنه الطباع وتستكرهه.
فشجرة الزقوم الشجرة التي لا تثمر إلّا ثمرًا كريمًا تعافه النفوس، ولا يناله المتناول إلَّا مكرهًا بإكراه من ذي جبروت، أو من جوع، أو من يكون في حال من يريد تناول أيَّ شيء مهما يكن ذلك الشيء، ومهما يكن مذاقه، ومهما تكن وباءته، والتعبير بشجرة الزقُّوم فيه إشارة إلى أنَّه طعام مثمر مستمر؛ لأن ثمراته الوبيئة الكريهة لا تنقطع، فهي شجرة دائمة الإثمار.
وفي هذه الآية يذكرها، وفي آية أخرى يذكر سبحانه أنَّها تنبت في أصل الجحيم، فهي من ثمرات شجر جهنم، وفي ذلك تصوير لحال الطعام، وتصوير لحال المقام، وكيف أنَّ المترف في الدنيا يتنقَّل من وادٍ نيراني إلى وادٍ مثله، وكل حياته منها، فإقامته فيها، وغذاؤه من ثمار أشجارها، وبئس مثوى الكافرين.
الكلمة الثانية: طعام الأثيم، يقول الذين تكلموا في ألفاظ القرآن: إنَّ الإثم الأمر المبطئ عن الخير المعوق عنه أو المؤخّر له، وعبَّر عنها بكلمة أثيم، وهي صيغة مبالغة من أثِم، وصفة مشبهة تدل على حال دائمة مستمرة، فهي تدل على أنه فعل الإثم كثيرًا، ولذلك وصف بصيغة الصفة المشبهة، وهو حال دائمة عنده؛ إذ الصفة المشبهة تقتضي أن يكون الموصوف بها في حال دائمة في صفتها لا تفارقه ولا يفارقها، وهنا معنيان كلاهما يدل على بلاغه اللفظ، وعظم مؤداه:
أول المعنيين: ذكر الوصف الذي يشير إلى أنَّ سبب ذلك الجزاء هو الإثم الدائم الكثير الذي كان منه في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، والعدل يقتضي ألَّا يتساوى المسيء بالمحسن، هل يستوي الأعمى والبصير؟
ثانيهما: إنَّ ذلك الثمر الكريه الذي تثمره شجرة من نار جهنم هو الطعام الدائم المستمر الذي لا يقدّم للطغاة إلّا هو، فلا يذوقون طيبًا؛ لأنَّهم لم يذيقوا الناس في الدنيا طيبًا، وهو يكون جزاء الخبيث إلا خبثًا.
الكلمة الثالثة: كالمهل يغلي في البطون، والمهل دردى الزيت، أي: الراسب، أو بقايا الزيت، وتكون عادة سوداء معتمة، ثم هي في ذاتها شيء رديء، وأعطاه القرآن وصفًا وهو أنَّه يغلي في البطون، فهو بقايا رديئة أصابها العطن لغليانها، إمَّا لحموضتها؛ إذ تغلي كالأشياء العطنة التي تتخمَّر وتغلي بالزبد، وإمَّا لأنها تكون ذات حرارة شديدة تغلي من شدة هذه الحرارة، ولعلَّ غليانها من الأمرين، فهي متعفنة تغلي بالزبد من الحموضة، أو هي حارة تغلي منها البطون لشدة الحرارة، وفي كلتا الصورتين تدخل على البطون غذاءً وبيئًا، إن كان فيه مادة الغذاء، وليس غذاء مريئًا، فهو إن يمنع غائلة الموت ويبقى فإنَّمَا يبقى لتستمر الآلام، وتكون حياته نكدًا، فطعام كريه في مذاقه وبيء في مآله، مؤلم في كل أحواله.
وقد يقال: إنَّ الأظهر هنا أنَّ الغليان من العفونة التي تكون من بقايا هذا الزيت؛ لأنَّ التشبيه جاء بعد ذلك في قوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيم} وهو الماء الحار إذا بلغ أقصى درجات الحرارة، فغَلَى واشتدَّ غليانه، والجواب: إنَّ الزيت يغلي مع شدة الحرارة كغليان الماء، وهو في هذه الحال يكون أشد؛ لأنه يكون في درجة حرارة أعلى، وكان تشبيهه بالماء للتصوير والتقريب، وكثير من تشبيهات القرآن للتقريب والتصوير، فالغليان يكون بالعفونة وبالحرارة معًا.
الكلمتان الرابعة والخامسة: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فإنَّ كل كلمة من هذه الكلمات تصور صورة عنيفة لهذا الذي عصى وغوى، وضلَّ إذ حسب أنه استغنى.
فكلمة الأخذ تنبئ عن القبض بعنف، وقد كان في القرآن الكريم ما يدل على العنف فيها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وكان الأخذ بأمر الله لملائكة غلاظ شداد، فكان الأخذ في ذاته شديدًا، وكان الآخذون أشدَّاء، وتجهيلهم هنا مع وصفهم في آية أخرى بأنهم غلاظ شداد، فيه إرهاب وبيان لعظم الأخذ بالآخذين.
وقد فسَّر سبحانه في الآية بما يدل على شدة الأخذ، وبيان أنه نوع خاص منه؛ إذ قال سبحانه: {فَاعْتِلُوه}؛ إذ العتل هو الأخذ بمجامع الشيء والإحاطة به، وجره بالقهر والعنف، فإذا كان الأخذ في ذاته عنيفًا، فهو في هذا النص أشد عنفًا؛ إذ هو جر وإحاطة قوية بالمأخوذ، وإن الأخذ بهذه الصورة من جر عنيف وإحاطة فيه ما يدل على الإهانة والتحقير، وخصوصًا إذا كانوا يحسبون أنهم وحدهم الكرام، وغيرهم أراذل دونهم، فإن الأخذ بطريق لعتلٍّ يعطي صورة للمهانة التي يكون عليها من يستكبرون على الحق أن يتبعوه، ويتبع الحق أهواءهم، وفي هذا بيان أنَّ هذا العنف جزاء وفاق لما كان منهم من غطرسة مقتية، فإنهم سيعاملون بمثلها يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
الكلمتان السادسة والسابعة: {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيم}، فكلمة سواء معناها: المكان المتوسط، والجحيم: النار المتأججة التي تكون في مهواة، والصورة التي توضحها كل كلمة من هذه أنَّه يؤخذ عنوة ويوضع في وسط النيران المتأججة التي تشتعل وتتأجج مرتفعة من وهدة جهنم إلى أعلى، ويلقى في المكان المتوسط بحيث لا يكون قادرًا على الخروج منها، بل هو في وسطها لا ينتقل إلا إليها، وليته يستمر على حاله لم يجئ له عذاب من خارجها، بل إنه يجيئه العذاب من الخارج، فيلتقي عذاب الداخل والخرج معًا، بل يجيء ما تدل عليه العبارات التالية:
الكلمات الثامنة والتاسعة والعاشرة: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}، والصب هو نزول الماء من أعلى إلى أسفل، ويكون متدفقًا مندفعًا، وهو مرتفع من فوق رأس الأثيم من عذاب الحميم، فالصب في ذاته من علٍ يؤلم ولو كان ماء باردًا، فكيف الحال إذا كان عذابًا، فهو صب لا لأجل التبريد، ولكن لأجل التعذيب، والإضافة هنا بيانية، أي: عذاب هو الحميم، وهو السائل الحار الشديد الحرارة، فهو عذاب ينزل فوق الرأس فيذيب أديمه ويصهره دهنًا.
وباجتماع الآيات من أولها يكون العذاب المهين في غذاء من المهل من الزيت الرديء يغلي في البطن من شدة العفن، ويغلي من شدة الحرارة، ويساق في هذا الحال مأخوذًا أخذًا عنيفًا محيطًا بمجامعه إلى وسط جهنم، ثم ينزل من فوق رأسه عذاب هو سائل شديد الحرارة، يصب على رأسه صبًّا عنيفًا يذيب كل ما يقع عليه.
ومع هذا العذاب المهين المؤلم الشديد يوجد عذاب معنوي بالتهكم عليه، فيقول لسان الحال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؛ ليعلم أنه كان طاغيًا.
53 - هذه جمل من الآيات الكريمة تسامينا فحاولنا أن نسمو إلى ألفاظ قرآنية مشرقة بمعانٍ، وكل كلمة منها لها طيف خاص بها، وتدل على معانٍ عميقة تصور ناحية بيانية تبدو واضحة في انضمامها لغيرها، وتتكون من مجموع الصور البيانية للكلمات صورة بيانية رائعة، وإذا كان لكل صورة حسية أطياف تعطي الصورة حيوية، فالصور البيانية لها أطياف عالية، تعطي الصورة روعة عالية، لا توجد في أي كلام غير القرآن الكريم.
وإن الصور البيانية القرآنية تبدو أوضح ما تكون في القصص القرآني، وإن كان كل البيان القرآني رائعًا واضحًا، فإنَّ القرآن في وصف الحوار والأجواء الفكرية والاعتقادية يصورها تصويرًا واضحًا، فإذا وصف حالًا لرجل تجده يصور قلبه وخواطره.
اقرأ قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20، 21]، هذه القصة بسياقها كل لفظ منها ينبئ عن معنى اللهفة والحذر، فهذا الرجل الناصح الأمين تجده يسعى من أقصى المدينة، والتعبير بأقصى يدل على المحبة الخالصة الطيبة، ثم كلمة يسعى تدل على أنه جاء عدوًا لا قرار عنده ولا اطمئنان، وقوله: {إِنَّ الْمَلَأ}، وهو كبار القوم يدبرون الأمر ليقتلوك.
واستجاب موسى لنصيحة الرجل الأمين، فخرج خائفًا يترقب انظر إلى كلمة {يترقب} فهو ينظر يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا يترقَّب من يأتيه من أمامه، ومن يأتيه من ورائه، ومن يأتيه من شماله ومن يمينه، وكلمة يترقب تصور تلك الحال، وتصور النفس المحترسة الآخذة تجدها في اطمئنان نفسي، واحتراس من غير اضطراب، فالمترقب الخائف غير المضطرب الخائف؛ لأن الخائف المضطرب لا يحسن الترقب ولا الحذر، فيصيبه الهلع فيخاف من غير مخوف، ويقع بهلعه وفزعه فيما يخشاه، ولفظ القرآن الكريم ينبئ عن هذه المعاني السامية، والكلمات صور لمعانٍ حسية ومعنوية، ظاهرة وباطنة، والله سبحانه السميع العليم والحكيم الذي أنزل كتابه المبين الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.